المرفق العام:
1. تعريف المرفق العام:
قبل التطرق إلى تعريف المرفق العام تجدر الإشارة في البداية إلى أن فكرة المنفعة العامة لها علاقة وثيقة بالقانون الإداري كفرع من فروع القانون، هذا ما رأيناه سابقا عند تطرقنا إلى أسس القانون الإداري، حيث إعتمدت مدرسة المنشأة العامة على هذه الفكرة القانونية وإعتبرتها أساسًا لتحديد نطاق القانون الإداري وتطبيق أحكامه، كما إعتمدت عليها في تحديد إختصاصات كل من القضاء العادي والقضاء الإداري.
إن المرفق العام هو المفهوم القانوني الأكثر غموضًا وإثارة للجدل، فقسمه الفقهاء على أساس المعيار الوظيفي، ومنهم من بنى تعريف المرفق العام على المعيار العضوي، وبعضهم إختلط بين الأول والثاني.
- المعنى العضوي: المنفعة العامة وفق هذا المعنى تعني كل مؤسسة عامة تؤسسها الدولة وتخضع لإدارتها بهدف تلبية إحتياجات المواطنين؛ ومن هنا يجوز إعتبار القضاء والأمن والدفاع والمرافق الأخرى مرافق عامة لأنها هيئات أنشأتها الدولة لتقديم خدمة للمواطنين، وهذا المعنى يتسم بالشمولية والقطع.
- المعنى الوظيفي أو الموضوعي: المنفعة العامة بالنظر إلى المعيار الموضوعي تعني كل نشاط يقوم به شخص عام بقصد تلبية حاجة عامة، ومن ثم فإن الأنشطة الخاصة الأخرى مثل مؤسسة خاصة تقع خارج نطاق هذا التعريف، وكذلك المشاريع التي تهدف فقط لتحقيق الربح.
2. تطور وظيفة الدولة وآثارها على مفهوم المرفق العام:
عند ظهور فكرة المرفق العام خلال القرن التاسع وبداية القرن العشرين لم تكن على درجة من الإبهام والغموض كالذي نراه الآن، خاصة وأن وظائف الدولة في تلك المرحلة كانت واضحة ودقيقة، ولأن المرافق العامة في بداية الأمر كانت تتسم بإرتباطها بمظهر سيادة الدولة الأمر الذي جعل الفقهاء يجمعون على خضوعها للقانون العام.
غير أن تطور وظيفة الدولة طرح إشكالا قانونيا في غاية من العمق، هل يصح إعتبار المرافق الإقتصادية ضمن المرافق العامة ومن ثم نخضعها هي الأخرى لقواعد القانون العام، أم أنها تخرج أصلا عن إطار المرافق العامة؟
في الحقيقة ليس من السهل الفصل في هذه الإشكالية بعيدا عن فكر وخلفية كل فقيه بخصوص الوظائف الأساسية للدولة، وإذا كانت المرافق ذات الطابع الإداري لم تطرح من حيث الأصل إشكالية بشأن خضوعها للقانون العام، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للمرافق الإقتصادية خاصة وأنها تخضع في نشاطها لكثير من قواعد القانون الخاص.
ولقد سأل الفقيه ديجي عن النشاطات التي يمكن وصفها بالمرفق العام فرد قائلا: "أنه لا يمكن إعطاء جواب ثابت، لأن هناك شيء ما يتغير بصورة أساسية، كل ما يمكن قوله هو أنه بقدر نمو المدنية يزداد عدد النشاطات القابلة لأن تستخدم كأساس للمرافق وينمو بالتالي عدد المرافق".
وقد شابه لهذا القول ما ذهب إليه الدكتور أحمد محيو حيث قال "أن مفهوم المرفق العام لا يمكن أن يكون مفهوما قانونيا مجردا أو حياديا، وليس له معنى إلا في ضوء محتواه والغايات الإقتصادية والإجتماعية التي أسندت له والتي يجب تحديدها".
ويعني ذلك أن لهذا المفهوم علاقة بكل مسألة من مسائل القانون الإداري، فالقرار الإداري هو الذي يتصل موضوعه بالمرفق العام، وتكون المسؤولية إدارية إذا كانت ناتجة عن مرفق عام، والعقد الإداري هو الذي يبرمه مرفق عام، والنزاع الإداري هو الذي يكون أحد أطرافه شخص من أشخاص القانون العام وهكذا.
ولقد خص الدكتور سليمان محمد الطماوي أهمية فكرة المرفق العام على الصعيد القانوني قائلا "إن نظرية المرفق العام تؤدي دورها كاملا ومن ينكرها فإنما يتنكر لكافة قواعد القانون العام والتي بنيت على أساس الأحكام الضابطة لسير المرافق العامة".
3. خصائص المرفق العام:
إن للمرفق العام مجموعة من الخصائص تميزه عن بقيت المرافق الأخرى، وفي ما يلي سنذكر لكم أهم تلك الخصائص:
1. المرفق العام تنشأه الدولة: إن كل مرفق عام تحدثه الدولة؛ ويقصد بذلك أن الدولة هي التي تحكم على نشاط ما أنه مرفقا عاما وتقرر إخضاعه للمرافق العامة بناءا على قانون معين، وليس من اللازم أن يكون كل مشروع تحدثه الدولة أن تتولى هي مباشرة إدارته، فكثيرا ما تعهد الإدارة إلى الأفراد أو شركة خاصة بأداء خدمة عامة تحت إشرافها، وهو الوضع الذي يجسده نظام الإمتياز أو الشركات المختلطة، وسنفصل في هذا الأمر عند دراستنا لـ طرق تسير المرفق العام.
ويفترض في المرفق العام الذي تتولى الدولة إحداثه أن يكون على قدر من الأهمية وإلا لكان قد تركه الأفراد، وفي هذا المعنى قدم الفقيه ديجي وصفا للمرفق العام بإعتباره نشاطا بأنه: أنواع النشاط أو الخدمات التي يقدر الرأي العام في وقت من الأوقات وفي دولة معينة أن على الحكام القيام بها نظرا لأهمية هذه الخدمات للجماعة، ولعدم إمكان تأديتها على الوجه الأكمل بدون تدخل الحكام.
2. هدف المرفق هو تحقيق المصلحة العامة: عرفنا سابقا أن المرفق العام مشروع يستهدف تحقيق مصلحة عامة، وهذا العنصر هو أكثر العناصر إثارة للجدل من جانب الفقهاء ذلك أن المصلحة العامة هي هدف كل وظيفة إدارية، بل وحتى المؤسسات التي تسيرها الدولة والتي تكون غايتها تجارية بحتة كالمؤسسات الإقتصادية إنما تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة.
كما أن المصلحة العامة ليست حكرا على الإدارة، فهناك من الوظائف التي يمارسها الأشخاص العاديون ما تتصل كذلك بالمصلحة العامة كخدمات البناء والنقل؛ ولقد إقترح الفقهاء معيارا للخروج من هذه الإشكالية فإذا كانت المصلحة العامة تمثل الغاية الأولى من النشاط الذي يقوم به الشخص القانوني وتوفرت الأركان الأخرى يتكون المرفق العام، أما إذا كانت المصلحة العامة تمثل غاية ثانوية لهذا النشاط فإن الوظيفة لا ترتقي إلى منزلة المرفق العام.
يقول (René Chapus) في هذا الصدد: "إذا كانت الوظيفة تمارس أساسا لصالح الغير فإنها تمثل مرفق عاما، وإذا كانت تمارس أساسا للصالح الذاتي للمصلحة التي تتبعها فإنها تمثل وظيفة لصالح النفع الخاص؛ ويترتب على تمييز المرفق بهذا الوصف أن كل مرفق عام ينبغي أن يخضع إلى مبدأ المجانية، ولا يقصد بذلك عدم وجود مقابل بل القصد أن فرض مقابل ما ليس هو الغاية المقصودة من خلال القيام بالنشاط.
أي أن المجانية لا تفيد هنا إنعدام المقابل إنعداما تاما، بل تفيد فقط أنه ليس من الضروري أن يكون المقابل مساويا للتكلفة المالية للمرفق العام، فعندما يلزم الطالب في الجامعة مثلا بدفع رسوم رمزية كل سنة جامعية فإن ما قدمه لا يغطي أبدا الخدمات التي ينتفع بها من مرافق التعليم العالي.
3. خضوع المرفق لسلطة الدولة: سبقت الإشارة أنه ليس كل مشروع يهدف إلى تحقيق النفع العام يعد مرفقا عاما، لأن هناك من المشروعات الخاصة ما يعمل على تحقيق النفع العام كالمدارس والجامعات الخاصة والجمعيات، ومن هنا تعين أن يتصف المرفق العام بصفة أخرى تميزه عن غيره وهي خضوعه للدولة، وهو ما يترتب عليه أن لهذه الأخيرة وهيئاتها ممارسة جملة من السلطات على المرفق سواء من حيث تنظيمه وهيكلته أو من حيث نشاطه.
فالدولة هي من تنشئ المرفق، وهي من تحدد له نشاطه وقواعد تسييره وعلاقته بجمهور المنتفعين، ومن حيث بيان سبل الإنتفاع ورسومه (السلطة على نشاط المرفق)، والدولة هي من تضع التنظيم الخاص بالمرفق وتبين أقسامه وفروعه وتعين موظفيه وتمارس الرقابة على النشاط وعلى الأشخاص (السلطة على المرفق كهيكل).
4. خضوع المرفق لنظام قانوني متميز: إن المشروع الذي رصد لتحقيق مصلحة عامة وأنشأته الدولة وتولت هي إدارته مباشرة أو عهدت به إلى أحد الأفراد أو الشركات إنما يحكمه نظام قانوني خاص؛ وما أجمع عليه الفقهاء أن هذا النظام يختلف من مرفق إلى آخر حسب طبيعته.
غير أن هناك قواعد مشتركة تحكم المرافق جميعا، سنتولى توضيحها عند دراسة النظام القانوني للمرافق العامة، ويجدر التنبيه أيضا أن بعض الفقهاء إعتبر خضوع المرفق لنظام قانوني متميز بمثابة الأثر المترتب على كونه مرفق عاما فهو إذن نتيجة ولا يمكن إعتباره خاصية عنصرا من عناصر المرفق العام.
4. أنواع المرافق العامة:
يمكن تقسيم المرافق العامة من زوايا متعددة سواء من حيث طبيعة نشاطها أو السلطة التي تنشئها أو لإختلاف دائرة نشاطها نستعرض أهم هذه الأنواع فيما يلي:
1. المرافق الإدارية: هي المرافق التي تؤدي الخدمات المرفقية التقليدية وقد لازمت الدولة منذ زمن طويل وعلى رأسها مرفق الدفاع والأمن والقضاء ثم مرفق الصحة والتعليم. وهذه المرافق عادة ما تتسم بارتباطها بالجانب السيادي للدولة الأمر الذي يفرض قيامها بهذه النشاطات وأن لا تعهد بها الأفراد بما في ذلك من خطورة كبيرة.
ورغم قدم هذا النوع من المرافق إلا أن الفقه لم يهتد لوضع معيار دقيق يمكن توظيفه والإعتماد عليه لمعرفة هذا النوع من المرافق على الأقل، وتكمن صعوبة وضع معيار في إختلاف نشاطات المرافق ذات الطابع الإداري، لذلك ذهب بعض الفقهاء إلى القول أن المرافق الإدارية هي مجموعة المرافق التي لا تدخل في عداد بقية أنواع المرافق الأخرى وهو ما أطلق عليه بالتحديد السلبي للمرافق.
فهذا الفقيه ديلوبادير يعرفها أنها "تلك المرافق التي لا تعتبر مرافق صناعية أو تجارية أو مهنية"؛ وعرفها الدكتور فؤاد مهنا بأنها "المرافق التي يكون نشاطها إداريا وتخضع في تنظيمها وفي مباشرة نشاطها للقانون الإداري وتستخدم وسائل القانون العام".
والمرافق الإدارية في غالبيتها تتميز بأن الأفراد لا يستهويهم نشاطها فلا يتصور أن يبادر الأفراد إلى إنشاء مرفق للأمن أو القضاء، فهذا النوع من النشاط دون غيره يجب أن يلحق بالدولة ويدعم ماليا من قبلها ويسير أيضا من جانبها بصفة مباشرة، ولا يمكن لدولة أن ترفع يدها عن هذا النوع من النشاطات لأنها تدخل ضمن وظيفتها الطبيعية أو واجباتها تجاه الأفراد.
ولقد أحسن أستاذنا الدكتور محمد سليمان الطماوي الوصف عندما قال إن هذا النوع من المرافق شيد على أساسها نظريات القانون الإداري الحديث، وهو أمر أكدنا عليه أكثر من مرة ذلك أن الدارس للقانون الإداري في كل محور من محاوره كثيرا ما تصادفه فكرة المرفق العام ذو الطابع الإداري سواء عند التطرق للقرار الإداري أو العقد الإداري أو المنازعة الإدارية أو المال العام أو سلطات الإدارة وغيرها.
وتتميز هذه المرافق عن غيرها أيضا أنها تخضع من حيث الأصل للقانون العام في سائر نشاطاتها لأنها تستخدم وسيلة القانون العام، وهو ما إتضح جليا من التعريف المذكورة للدكتور فؤاد مهنا؛ وإذا كان من الثابت فقها وقضاء أن المرفق الإداري يخضع على سبيل الإستثناء لقواعد القانون الخاص، إلا أن هناك من أنصار مدرسة المرفق العام من إعتبر ذلك غير منسجم مع قواعد القانون العام ذاته.
2. المرافق الإقتصادية: هي مرافق حديثة النشأة نسبيا تسبب فيها التطور الإقتصادي وظهور الفكر الإشتراكي مما دفع بالدولة إلى ممارسة نشاطات كانت في أصلها معقودة للأفراد، ومثال هذا النوع من المرافق المؤسسات الصناعية والمؤسسات التجارية.
وإذا كان الفقه قد أجمع كما رأينا على إخضاع المرافق الإدارية لقواعد القانون العام، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للمرافق الإقتصادية خاصة وقد ثبت ميدانيا أن المرافق الإدارية يتسم عملها بالبطئ وإجراءاتها معقدة وتكاليفها باهضة، وهذه الآليات لا تساعد المرافق الإقتصادية التي تحتاج إلى أن تحرر أكثر وتخضع لإجراءات يسيرة يفرضها مبدأ المنافسة.
إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن المرافق الإقتصادية إن خضعت لآليات القانون العام جملة، فإنها ستلقى منافسة شديدة من جانب المؤسسات الخاصة، ولربما يؤدي إلى زوالها مع مرور الوقت، لذلك إتجه الرأي الحديث في القانون الإداري وقضاء مجلس الدولة الفرنسي إلى تحرير المرافق الصناعية من قيود القانون العام.
5. معايير التفرقة بين المرافق الإدارية والإقتصادية:
لقد أثار ظهور المرافق الإقتصادية إشكالا على المستوى القانوني تمثل في إيجاد معيار فاصل بين المرافق الإدارية والمرافق الإقتصادية، ونوجز هذا الخلاف فيما يلي:
- الرأي الأول: معيار القانون الواجب التطبيق أو النظام القانوني الذي يخضع له المرفق، وذهب مناصروه إلى القول أن ضابط التمييز بين المرافق الإقتصادية والمرافق الإدارية يكمن في أن النوع الأول من المرافق يخضع للقانون الخاص بحكم ممارسة لنشاط مماثل للذي يقوم به الأفراد، خلافا للنوع الثاني الذي يخضع كليا للقانون العام، ويؤخذ على هذا الرأي أنه يصادر على المطلوب فالخضوع لقواعد القانون العام أو القانون الخاص إنما هو نتيجة طبيعية ترتبت على الإعتراف بالطابع الإداري والإقتصادي للمرفق، ومن ثم لا يمكن الإعتماد عليه.
- الرأي الثاني: وهو معيار الغاية، حيث رأى جانب آخر من الفقهاء أن أداة التمييز بين النوعين من المرافق الإقتصادية والإدارية تكمن في أن المرافق الإقتصادية تبتغي في نشاطها تحقيق الربح خلافا للمرافق الإدارية، ويؤخذ أيضا على هذا الرأي أن تحقيق الربح من عدمه هو نتيجة مترتبة على طبيعته، كما أن المرافق الإدارية تتقاضى رسوما لقاء قيامها بخدمة ما للجمهور.
- الرأي الثالث: معيار شكل المشروع أو ومظهره الخارجي، وقد ذهب رأي في الفقه إلى التركيز على شكل المشروع أو مظهره الخارجي، فيعد المرفق إقتصاديا إذا أدير عن طريق شركة، أما إذا تولت السلطة العامة إدارته فهو على هذا النحو يعد مرفق إداري، غير أن هذا الرأي تعرض لنقد مفاده أنه لا شيء يمنع السلطة العامة من أن تتولى أيضا إدارة المرافق الإقتصادية.
- الرأي الرابع: معيار طبيعة النشاط، وهو أكثر المعايير الفقهية شيوعا بالنظر لدقته، ويقوم هذا المعيار على أساس طبيعة النشاط الذي يزاوله المرفق، فإذا كان هذا المرفق يمارس نشاطا يعتبره القانون تجاريا فيما لو قام به الأفراد إعتبر المرفق على هذا النحو تجاريا؛ ولقد تبنى هذا الرأي كبار فقهاء القانون الإداري، ونحن بدورنا نعتقد أنه معيار سليم خاصة وقد سلط الضوء على ضابط يمكن الإعتماد عليه للتمييز بين النوعين من المرافق، وإذا كان الدكتور محمد أنس قاسم إعتبر أنه في المرافق الإدارية الوضع الغالب الإدارة هي من تدير النشاط خلافا للمرافق الإقتصادية التي يعهد بالنشاط لأحد أشخاص القانون الخاص.