السياسة العامة:
إن التنوع والتعدد في تعريف السياسة العامة إنعكس بالضرورة على خصائصها التي نستطيع تحديد البعض منها إنطلاقا من هذه التعاريف، كما يمكننا تحديد أهم مكوناتها وذلك على النحو التالي:
1. خصائص السياسة العامة:
التعاريف المختلفة للسياسة العامة تقودنا إلى البحث في الأبعاد والعناصر المشتركة التي تتضمنها غالبية هذه التعاريف، والتي تعكس لنا خصائصها الأساسية التي تسمح لنا بتمييزها عن المفاهيم المشابهة لها، وذلك على النحو التالي:
- السياسة العامة لا تعني ما تعتزم الحكومة القيام به أو ما سوف تفعله، بل تعني ما تقوم به في الواقع فيما يتعلق بمشكلة ما، لأن تقديم السلطات العمومية لوعود حول مسألة ما من دون إتباع ذلك بوضع سلسلة من القرارات والقوانين المرتبطة بها وإدخالها حيز التنفيذ لا يعد سياسة عامة.
- السياسة العامة هي فعل للمؤسسة الحكومية لأنها تمثل خياراتها وتوجهاتها إتجاه مشاكل المجتمع، فلن تصبح سياسة عامة إذا لم تتبناها الحكومة وتصدر بشأنها قانونا أو مرسوما يحدد أهدافها وينظم نشاطات المؤسسة الحكومية في سياسات معينة.
- لكل سياسة جمهور أفرادا كانوا أم جماعات أو منظمات، فسائقوا السيارت والمؤسسات الصانعية لها وشركات الهندسة المدنية كلهم يشكلون بدرجات متفاوتة رعايا لسياسة أمن الطرقات، بعضهم قد يكون سلبي أي غير فاعل والبعض الأخر ينظم نفسه للتأثير في إعداد وتنفيذ البرامج العمومية.
- السياسة العامة هي نتاج تفاعل الفواعل الرسمية وغير الرسمية الذي يأخذ عدة صور كالتفاوض والمساومة والإقناع والتوفيق بين الآراء والفرض والإكراه، وليست نتيجة لمؤسسات صنع السياسة المستقلة لأن الفواعل غير الرسمية تلعب دورا هاما في صنعها.
- السياسة العامة ذات طابع مجتمعي وشمولي، فعند إقرارها يتم تطبيقها بشكل شامل متماثل على كل الأفراد الذين تخدمهم دون تمييز، وهذا الشمول والإمتداد لا يتنافى في حالة التنوع والتخصص في السياسة العامة إذ نجد سياسة عامة موجهة لفئات معينة دون غيرها.
- هدف أي سياسة عامة هو تحقيق المصلحة العامة، إذ يتوجب على السلطات العمومية المختصة قبل وضعها لأي سياسة الأخذ بالحسبان عدم تعارضها مع هذه المصلحة التي تعد في الوقت ذاته تبريرا لإعتمادها.
- يمكن أن تكون السياسة العامة إيجابية أو سلبية، فهي إيجابية عندما تتخذ الحكومة قرارا للتأثير في مشكل ما بهدف إيجاد حلول له، وهي سلبية عندما لا تتصرف الحكومة بالرغم من أن نشاطها يكون مطلوبا بوضوح إذ تقرر عدم التصرف تبعا لسياسة عدم التدخل.
- توضع السياسة العامة في إطار تنظيمي دستوري وقانوني في صورة مكتوبة أو غير مكتوبة، وجود هذا الإطار التنظيمي لا يستوجب تواجد ترابط عضوي بين تنظيم حكومي معين وبين نوع معين من أنواع السياسات، فوزارة التربية مثلا لا تعد المؤسسة الوحيدة المسؤولة أو المكلفة بإعداد السياسة التعليمية وتنفيذها.
- يمنح القانون للسياسة العامة سلطة الإكراه والشرعية، فإصدارها يكون متبوعا بإصدار مجموعة القوانين والمراسيم التي تتطلب ولاء المواطنين لها، فالإلتزامات القانونية هي ما يميز السياسات الحكومية عن غيرها من السياسات، حيث تكتسب السياسة صفة العمومية بصدورها عن المؤسسات العامة وأيضا قوة الإلزام القانوني التي يترتب عن مخالفتها من قبل المواطنين المعنيين بها عقوبات مستحقة.
- السياسة العامة سلسلة نشاطات مترابطة فيما بينها ممارسة من قبل فواعل تستخدم الوسائل التي ترى أنها الأنسب لتحصيل أهدافها، وتكون النشاطات مقصودة وموجهة نحو تحقيق هدف أو أهداف محددة وليست مجرد نشاطات عشوائية، إذ لا بد من تواجد علاقة ترابطية بينها وأن تتجاوز مستوى القرار الوحيد.
2. أسباب دراسة السياسة العامة:
تدرس السياسة العامة لثلاث أسباب هي:
- سبب نظري يرتكز على محاولة فهم وتفسير عالم السياسة لتطوير وإختبار تعميمات تفسيرية عن السلوك السياسي للأفراد والمؤسسات، فالعلماء منشغلون بالكيفية التي ترتبط فيها السياسة العامة مثلا ببنية الحزب السياسي وجماعات المصالح...، ويطمحون إلى تفسير للعلم بإختبار نظرية السياسة وتطوير نماذج للعملية السياسية لفهم طرق صنع السياسة العامة.
- سبب علمي أين يسعى طلاب العلوم السياسية إلى تطبيق المعرفة لحل المشاكل العملية وجعل السياسة العامة أكثر عقلانية وفعالية إزاء العقبات التي تحول دون تنفيذ القرارات والكيفية التي تؤثر بها هذه السياسات على نوعية الحياة الفردية والجماعية.
- سبب سياسي وهو مرتبط بسابقه، إذ يأمل طلاب وعلماء السياسة وحتى المواطنين من دراسة السياسة العامة العثور على طريقهم ضمن القضايا المعقدة التي عادة ما يحدث خلاف حولها والوصول إلى مقترحات السياسة المتطورة وفهم المواقف والحجج الأيديولوجية التي تحدد الخيارات السياسية، لهذا يتوجب على هؤلاء الطلاب أن يكون هدفهم تحليل السياسة العامة وليس الدفاع عنها، بإستخدام منهجية العلوم الإجتماعية لإستخلاص الإستنتاجات وتطوير إطار فعال لفهم صنع السياسة العامة وتداعياتها.
- كل سياسة عامة تميل إلى حل مشكل إجتماعي معترف به على أنه عمومي ويستدعي إعادة الإتصال المعطل أو المهدد بالزوال بين فواعل إجتماعية كبيرة، ولأن المشاكل تتميز بالتعدد والتنوع فإن الأمر يتطلب تحديدها وترتيبها وفق سلم الأولويات، في ظل الإمكانيات المتوفرة لتنفيذ السياسة العامة.
- السياسة العامة يجب أن تعكس الجدوى السياسية، بمعنى القدرة وإمكانية التعامل مع محددات المشكلة المراد حلها التي قد تؤثر على نتائج السياسة أو تخرج عن سيطرة صناعها وتشكل عائقا أمام خياراتهم، وهو ما يتضح من خلال التقويم القبلي للآثار المترتبة عن السياسة العامة، فتكون الجدوى مؤشرا من مؤشرات نجاحها وإبراز لقدرتها على مواجهة محددات القضية وتجاوز السلبيات المحتملة الوقوع وتلاشي آثارها الجانبية من دون التأثير في مخرجاتها المتوقعة.
- إستفادت السياسة العامة كعلم في منهجيتها الفكرية وأطروحاتها وأدواتها البحثية من الرصيد العلمي والتراكم المعرفي في مختلف العلوم خلال القرن العشرين، فأصبحت بوتقة تتفاعل في خضمها العديد من النظريات والأطروحات العاكسة لعلاقتها بهذه العلوم.
- السياسة العامة ديناميكية غير ثابتة لإتصالها بالقضايا الراهنة في المجتمع، ووجوب تكييفها بإستمرار بما يتناسب مع تأثير متغيرات البيئة، وينبغي أن نلاحظ أن الأهداف في حد ذاتها ثابتة، وهذا يعني أن السياسة التي تحتوي على الخطوط العريضة أو مسار للعمل الحكومي يجب أن تتغير وفقا للحاجة بينما سيتم تحديدها أو تثبيتها من حيث الوقت، فالسياسة العامة متجددة ومستمرة، بحيث تمثل أسلوب لإحداث التغيير الهادف وتحقيق المنفعة العامة عن طريق الإستمرارية بالقدر الذي يحقق التغيير المطلوب، أي الحد من عمليات التغيير المتسارعة في أهداف السياسة العامة، وعن طريق كذلك التجديد بمعنى التكيف وإستعاب متغيرات الظرفية والإستفادة من التغذية الراجعة أثناء مراحل التنفيذ لإجراء التعديلات اللازمة التي لا تغير في جوهر الأهداف وإنما تزيد من كفاءة وفعالية التنفيذ.
3. أهداف السياسة العامة:
تهدف السياسة العامة في مجملها ومع تنوع أنماطها ومجالاتها ومستوياتها إلى تحقيق جملة من الأهداف الرئيسة التي يمكن حصرها في التالي:
- بناء الدولة وتأكيد سيادتها في دائرة إختصاصها الإقليمي، بما يؤمن لها تحقيق الإستقرار والإستقلال في منهجها السياسي، وفرض سياساتها الداخلية والخارجية.
- حل المشكلات المجتمعية الماثلة والمتوقعة في إطار يؤمن إدارة المجتمع، ويحفظ حقوق الفرد والجماعة، ويحقق التمازج العضوي بين الأنساق السياسية والاجتماعية والثقافية المحددة لهوية ومقومات الدولة.
- وضع الأطر الفكرية وتحديد الأساليب العلمية لتحقيق التنمية الشاملة (بشرية وإقتصادية ومستدامة)، من خلال رسم منهجية عملية تستهدف الإستغلال الأمثل للموارد، وتغيير نمط التسيير الروتيني، والإستفادة من التطور التكنولوجي، وغيرها من الأسس التي تعزز تحقيق المتطلبات الإنسانية في الحاضر والمستقبل.
- أما عن الهدف الكلي لعلم السياسة العامة فيتمثل في توظيف المعرفة والنظم والأساليب العلمية في الأداء والأجهزة والطرق التقنية الحديثة، لزيادة القدرات والإمكانيات في التفاعل الإيجابي مع قضايا التنمية والتحديث ومعالجة المشكلات المجتمعية الماثلة والمتوقعة بدرجة عالية من الكفاءة والفعالية، وبما أن الحاضر والمستقبل هما نتاج الحصيلة التراكمية للأحداث والمتغيرات الصادرة من المجتمع أو الوافدة إليه، فإن علم السياسة في مضمونه يهدف إلى إثراء وتنمية منهجية فكرية وعملية وتعميقها وتحديد رؤية مستقبلية.
4. مكونات السياسة العامة:
هيكلة السياسة العامة ترتبط وتتشكل عبر منظومة من المكونات والعناصر، ويمكن التطرق إلى أهمها والتي أجمع عليها معظم المفكرين كالتالي:
- المطالب السياسية: تمثل المطالب حاجات الأفراد والمجتمع وتفضيلاتهم المتنوعة، توجه إلى النظام السياسي في صورة مطالب تستدعي إستجابة السلطات لها بصورة أو بأخرى، فهي الإجراءات التي تطالب الجهات العامة أو الخاصة الحصول عليها أو إنجازها من قبل الموظفين الرسميين في الدولة بخصوص قضية أو مشكلة معينة، وما يطرح على طاولة الساسة في الحكومة التي تأتي من قبل الأفراد والمواطنين بغض النظر عن هويتهم وإنتمائهم، والتي تمثل الإحتياجات الإجتماعية وتفضيلاتها المتنوعة، وتختلف المطالب في طبيعتها فقد تكون رغبة المواطنين أو المشرعين بأن تقوم الحكومة بعمل شيء معين، كما تعمل الأبنية والتنظيمات الموجودة في النظام السياسي كالجمعيات المحلية والأحزاب والنقابات وجماعات الضغط وقادة الرأي ووسائل الإعلام على تنظيم وتعبئة هذه المطالب وتقديمها في صورة معينة إلى الحكومة لدفعها إلى التحرك إزاء القضايا المطروحة، وبذلك تكون هذه المطالب متغيرا محوريا ومولدا ومسببا مباشرا يثير قلق الحكومة ويشد إنتباهها والإستجابة لها بالفعل أو عدم الفعل.
- قرارات السياسة: القرار مفهوم يدل على وجود عملية يتم فيها انتقاء بديل واحد أو عدد من البدائل من بين مجموعة من البدائل، وتعد النظرية القرارية النظرية التي تعني الدراسة المتفحصة والشاملة لمختلف العناصر التي يجب أن تؤخذ في الإعتبار عند تحليل سياسة معينة، والقرارات السياسية هي ما يصدره المسؤولون الحكوميون المخولون قانونيا من الأوامر والتوجيهات المعبرة عن محتويات السياسة العامة، وتشمل الأطر التشريعية التي تتخذ صيغة القوانين، أو إصدار الأوامر، أو وضع القواعد التنظيمية الموجهة لأعمال الإدارة، أو تقديم التفسيرات الإجرائية للعملية القضائية حيال تطبيق القوانين.
- إعلان محتويات السياسة: وهو التفسير الرسمي لمضمون السياسة العامة الذي يشمل القوانين التشريعية والأوامر التنفيذية والدساتير والقواعد والتنظيمات الإدارية، إلى جانب أقوال الموظفين الرسميين المعبرة عن إتجاهات الحكومة وما تنوي القيام به، وقد يكون وصف السياسة ومضمونها غامضا، كما قد يحصل التناقض عند شرحها أو شرح مضمونها في المستويات المختلفة أو في السلطات أو الوحدات الإدارية.
- مخرجات السياسة: هي مجموعة الأفعال والقرارات الملزمة والسياسات والدعاية التي يخرجها النظام السياسي، فهي ردود أفعال النظام أو إستجابته للمطالب الفعلية أو المتوقعة التي ترد إلى النظام من بيئته، أي أنها الإنعكاسات المحسومة الناتجة عن السياسة العامة في ضوء قرارات السياسة والتصريحات التي يلتمسها المواطنون عن الأعمال الحكومية، بمعنى المؤشرات الملموسة المنجزة كنتيجة للقرارات المتخذة وكل ما تنجزه الحكومة مقارنة بما تدعي القيام به مستقبلا، أي ما يمكن تحويله إلى عملية التنفيذ والتحقق منه عمليا، وعليه مخرجات السياسة تمثل مجموعة الأفعال والقرارات الملزمة التي تعبر عن ردود أفعال الحكومة المزمع تنفيذها بشكل حقيقي ويمكن تقويمها وقياسها لتكون بذلك السياسة العامة التي سيتم تنفيذها وتحقيقها بدلا من أن تكون قرارات أو بيانات متداولة بين المشرعين والمنفذين السياسين.
- العوائد أو آثار السياسة: وتمثل العوائد المحصلة أو النتائج التي يتلقاها المجتمع من تطبيق السياسة العامة سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة، فلكل سياسة تم تنفيذها أثار معينة والناتجة من إتخاذ أو عدم إتخاذ إجراءات محددة من قبل الحكومة، وعلى هذا الأساس تكون آثار السياسة العامة مؤشرا هاما لتقييم وتقويم وتحليل السياسة العامة والتأكد من مدى تحقيقها للأغراض التي شرعت من أجلها.
5. مشاكل تحليل السياسات العامة:
- إن محلل السياسات العامة في تبنيه المنهجية العلمية للتحليل يواجه مجموعة مشاكل ذات صفة عملية، ونعني بذلك نقص البيانات والمعلومات وتناقضها في كثير من الأحيان، إلى جانب السرية المفروضة من قبل الجهات المسؤولة حول بعض الملفات والموضوعات وكذلك ندرة الدراسات المماثلة والمقارنة في بعض القضايا والمسائل.
- صعوبة قياس التكاليف غير المباشرة والمعنوية لبرامج السياسات العامة، وكذلك صعوبة قياس عوائد السياسة العامة على الرفاه الإجتماعي، كما تزداد درجة الصعوبة عندما يتعلق الأمر بإحتساب الأثر الصافي أو النهائي المتحقق من جراء السياسة العامة، والذي يقاس بخصم مجموع كل التكاليف المادية والمعنوية المباشرة والمستقبلية من مجموع الفوائد المحققة.
- تتطلب المنهجية العلمية من المحلل السياسي أن يأخذ بعين الإعتبار أطر وإقترابات الإختيار الأمثل حتى يصبح جهده مندرجا ضمن إطار يجعل من تلك الإقترابات لا تفرض قرارا وإنما توضح جدوى الإختيارات البديلة، أما مسألة إختيار الأنسب أو تحاشي إختياره فإن الأمر مرهون بالإرادة السياسية وبدورها، أي أن قرار إختيار سياسة ما ليس بالضرورة أن يكون عاكسا لتلك الحسابات والتقديرات التي توصل إليها المحلل بسبب إعتماده على تلك الأطر والإقترابات، لتبقى الجدوى السياسية بعيدة عن الحسابات الكمية لإعتمادها على أحكام قيمية وتصورات فكرية وإجتهادات ذات مضمون إجتماعي وسياسي.
- مشاكل الأساليب الكمية والنماذج الرياضية التي يستعين بها محللو السياسات، والتي قد تؤدي إلى نتائج غير واضحة إزاء المشكلة المدروسة، فرغم النجاح الذي قد تحققه في معالجة المشكلات الإدارية في القطاع العام (كمشاكل التحضر وتلوث البيئة ومشكلات التنمية)، إلا أن نتائجها في مجال التعامل مع المشكلات المجتمعية المعقدة تكون محدودة، وهذا بسبب عدم قدرة تلك الأساليب على الإستجابة للعوامل والمتغيرات التي لا يمكن قياسها كالقيم والأفكار.
- أما فيما يتعلق بالمداخل، فبغض النظر عن المدخل المستخدم في التحليل، لا يستطيع أي سياسي أن يقوم بوضع تنبؤ صحيح ومؤكد عن تأثير سياسة ما في حل مشكلة معينة، فالسياسات يتم صياغتها كنوع من الإستجابة لحاجات معينة صريحة أو ضمنية مع الأخذ بعين الإعتبار الظروف والمتغيرات البيئية القائمة والضغوط السياسية الحالية والمستقبلية، ولو فرضنا وجود مدخل يمكنه أخذ كل هذا في الحسبان، فإن هذه المتغيرات ليست ثابتة بل تتغير بصورة مستمرة.